من القائل : "تخلق الصحافة في هذا العصر أساطير في يوم واحد أكثر ممّا يخلقه الدين خلال قرن" ؟؟؟
"La presse crée aujourd'hui en un seul jour plus de mythes que la religion en un siècle"
القائل هو كارل ماركس، فهو إذ يعتبر أنّ قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج ونوعيّة الملكيّة تـُكوّن البنى التحتيّة التي يحدّد تفاعلها التطوّر التاريخي، فإنّه نبّه أيضا إلى أهميّة الأفكار والتمثـّلات والمعتقدات التي تـُكوّن البنى التحتيّة. وعلى غرار الكاتب والصحفي الفرنسي هونوري بالزاك Honoré Balzac والكاتب والمفكر الإيطالي أنتونيو قرامشي Antonio Gramsci كشف ماركس الدور المحوري للصحافة في تكوين الذهنيّات، مُعتبرا أنّ الخاصيّة الجماهيريّة للصحافة قد بوّأتها قوّة تأثيريّة أرفع من تلك التي يُمارسها الدين حسب رأيه.
ولكن هلّ مازال هذا "التصوّر" يحافظ، في الزمن الراهن، على أهميّته الآنيّة ومقوّماته الموضوعيّة السابقة؟
في تقديري، قد يصحّ هذا الرأي أو الحكم باقترانه بزمان ومكان معيّنين، وهما أساسا أوروبا خلال القرن التاسع عشر، أي أوروبا المنعتقة من هيمنة الكنيسة والمرتوية بفلسفة الأنوار، حيث انتشرت الصحافة الجماهيريّة بشكل واسع. أمّا اليوم، فيبدو أنّ الأمور قد شهدت تغيّرات عدّة سواء على المستوى الجيو سياسي أو التكنولوجي أو العلمي.
فمن جهة، لم تعد الصحافة "المكتوبة" الوسيلة الإعلاميّة الوحيدة والمهيمنة، بل أضحت تعاني من شدّة المنافسة التي أحدثتها التكنولوجيات الحديثة للإعلام والاتصال وخاصة الانتشار الكوني للقنوات التلفزيونيّة الفضائيّة وشبكة الإنترنت... ومن جهة أخرى تجاوزت علوم الإعلام والاتصال اليوم المقولات التقليديّة حول مسألة التأثير المباشر للإعلام في الجماهير أي أن يكون تأثير وسائل الإعلام ذا اتجاه واحد، فلا يواجه أيّ مقاومة أو ردّ فعل من المتلقّي... وقد أصبح هناك اعتقاد شبه راسخ بأنّ النجاح اليوم في ترويج أيّ مضامين ذات أبعاد إخبارية أو أيديولوجية مرتبط غالبا بمدى تملّك تكنولوجيا الإعلام والاتصال والإسهام أساسا في المضامين التي يتمّ ترويجها عبر الشبكة المعلوماتيّة... وعلى هذا الأساس، أصبح تأمين قدر واسع من التفاعليّة (interactivité) بين الباث والمتلقي من أهمّ الشروط المفترض توفـّرها في أيّ وسيلة إعلام ترنو إلى النجاح، لاسيّما أنّ المتلقي نفسه أضحى بدوره باثا للمضامين المختلفة. وهذا ما يُترجم إذن التغيّر الجوهري الذي جدّ على المقاربة الكلاسيكيّة لمسألة التأثير...
أمّا من الجهة الأخرى، فإنّ الأمور قد أصبحت تشهد اليوم الكثير من التداخل، إذ لا يُمكن أن نعتبر أنّ الصحافة أو حتى الإعلام بشكل عام له قوّة تأثير أو تكييف اجتماعي وسياسي أكبر من تلك التي يتمتـّع بها الدين.. والدليل على ذلك العودة القويّة لبروز البعد الديني وهيمنته في المجتمعات العربية والإسلاميّة خلال العقدين الأخيرين، بل وقد امتدّ ذلك بشكل من الأشكال إلى المجتمعات الغربية على الرغم من أنّها لا تزال تحافظ على أنظمتها اللائكيّة.
كما يجب الإشارة إلى مسألة التداخل الكبير في الأدوار بين الدين والإعلام. فقد أضحت وسائل الإعلام اليوم محملا يكاد يكون أساسيّا لترويج الأطروحات والمذاهب الدينيّة المختلفة في العالم بأسره. ويتمّ ذلك عبر الفضائيّات الدينيّة المتخصّصة وكذلك عبر الفضائيّات الإخباريّة أو العامّة سواء منها ذات المضامين الدينيّة المُعلنة أو غير المُعلنة. وهذا في حدّ ذاته موضوع آخر يحتمل الكثير من الجدل ويستوجب نقاشا مسهبا...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق