لغة خشبيّة في حاجة للتعديل
نشرت جريدة "الصباح" التونسية اليوميّة في عددها الصادر اليوم قراءة للتعديل الوزاري الجزئي الذي أقرّه الرئيس بن علي أمس الأوّل يحمل عنوان "ملامح التحوير الوزاري الأخير : التشبيب... والنجاعة" لصاحبه مصطفى المشاط. وبعد قراءة هذه المقال إلى نهايته لم يجل بخاطري سوى السؤال التالي: لماذا هذا التساهل في إتاحة المجال للبعض لتحبير ورقات لا تستجيب للحدّ الأدنى لقواعد الكتابة الصحفيّة؟
طرح هذا التساؤل جاء بالنظر إلى ما اتسم به المقال المذكور من أسلوب ينهل من معين الكتابة الخشبيّة المنقطعة عن الحياد والموضوعيّة في حدودهما الدنيا. فبعد ديباجة مستطولة عن النجاعة ورفع التحدّيات وكسب الرهانات وتحقيق الإنجازات، وهي ألفاظ سآخذ على نفسي اجتناب استعمالها مستقبلا لما شابها من استعمالات مبتذلة... بعد ذلك انطلق صاحب المقال في الإشادة والإطراء والمدح لكلّ الوزراء الذين تمّ تعيينهم، فلم ينس أيّا منهم، وشهد بخبراتهم الواسعة وكأنه خبرهم أكثر من رئيس الدولة الذي قرّر تعيينهم، وربّما أراد أن يوحي بأنّه كان وراء اقتراح تعيينهم، فهو أعلم الخلق بشؤون الوزراء!!
ويمكن أن ننظر إلى الأوصاف التي أطلقها على كلّ هؤلاء المسؤولين الجدد حتى ندرك القدرة الهائلة لمحرّر المقال على الإبداع في مجال المدائح التي لم يبرّرها بأيّ وقائع أو أمثلة ملموسة مثلما تقتضي قواعد الكتابة الصحفية الموضوعية. وفيما يلي نماذج للمدائح والوصاف التي وشّح بها صدور الوزراء الدجج.
- مسؤول "مشهود له بقدرته على مسك الملفات"
- مسؤول "يتمتع بتجربة ثرية... هامة ومتنوعة"
- مسؤول "معروف باطلاعه الواسع، قادر على مواصلة تحقيق الإنجازات الهامة"
- مسؤول على "قطاع يعرفه بكل دقة ومطلع عليه بحكم مسيرته الثرية"
- مسؤول "اكتسب خبرة هامة في العديد من المجالات"
- مسؤول "له من الخبرة والتمرّس ما يجعله قادرا على إيجاد صيغ عملية جديدة ومتطورة"
- مسؤول "يجمع بين الجانب الجامعي الأكاديمي والبعد التطبيقي في مجال له فيه دراية واسعة"
ومع احترامنا لكلّ الوزراء الذين تمّ تعيينهم ولمدى الكفاءة التي يتسمون بها، فإنّ أسلوب محرّر المقال اكتسى ركاكة مبالغ فيها، ظاهرها الإطراء بمناقب هؤلاء المسؤولين الجدد وباطنها استخفاف بالقارئ عوضا عن الالتزام بالدقة والعمق في ذكر المعطيات دون الاكتفاء بانطباعات عامّة لا تسمن ولا تغني من جوع وعدم إطلاق الأحكام والتقييمات، إيجابيّة كانت أو سلبية، إلاّ بإسنادها إلى القرائن والأمثلة.
ولنأخذ مثلا ما قول كاتب المقال بشأن سمير العبيدي وزير الشباب والرياضة والتربية البدنية الجديد، فهو يقول: "وكذلك الشأن بالنسبة للسيد سمير العبيدي الذي يتمتع بتجربة ثرية... هامة ومتنوّعة ستمكنه بالتأكيد من مواصلة إنجازات هامة على الصعيد الرياضي كان أبرزها حصول تونس لأول مرة على كأس إفريقيا للأمم... ثم مؤخرا.. وبعد 40 سنة على ميدالية ذهبية في الألعاب الأولمبية بيكين 2008". إذن بدأ صاحب المقال بتعميم مدحه للسابق على اللاحق (وكذلك الشأن) ثمّ غيّب ما يفترض ذكره عن مسيرة سمير العبيدي بدءا بقيادة الاتحاد العام لطلبة تونس ومرورا بعضويّة المجلس الاقتصادي والاجتماعي بما يؤهله -من وجهة نظر معيّنة- لمسك ملف الشباب في "سنة الحوار مع الشباب" وخاصّة ما بعدها، لاسيّما أنّه لا ملفات كبرى لتونس خلال المرحلة القادمة في جنيف بعد تقديم تقريرها حول حقوق الإنسان.. ولكنّ صاحب المقال رأى شيئا مناقضا كليّا وهو "مواصلة إنجازات هامّة على الصعيد الرياضي" مثل الحصول على كأس إفريقيا وعلى ميدالية ذهبية في أولمبياد بيكين. وهذا مجانب للحقيقة تماما، لأنّ الإنجازات المتحدّث عنها تـُعدّ انتكاسات بالنسبة إلى الوزير المعزول الذي حلّ العبيدي مكانه، إذ بعد الحصول على كأس إفريقيا منذ أمد خيّب الفريق الوطني لكرة القدم آمال التونسيين في دورتين متتاليتين، أمّا بالنسبة إلى الإنجاز الباهر في بيكين فقد حققه شخص عانى الويلات وقلّة الدعم من مسؤولي الرياضة في تونس قبل وأثناء الأولمبياد الأخير، ورئيس الدولة نفسه كان قد لمّح إلى ذلك عند استقباله مؤخرا لأسامة الملولي وتأكيد "حرصه على توفير كل الظروف الملائمة لاستعداده الجيد للمواعيد الدوليّة المقبلة". وبالإضافة إلى أخطاء أخرى تتعلق ببعض الجامعات الرياضية والمشكلة التي جدّت بين الوزير السابق واللاعب التاريخي طارق ذياب، كانت كّلها مبرّرات يمكن طرحها بشأن دواعي عزل الوزير الكعبي. ولا يبدو في ذلك أيّ حرج. فلماذا إذن هذا التساهل الساذج في الحديث عن مواصلة الإنجازات الهامّة وما إلى ذلك من الأساليب البليدة الخالية من أيّ إضافة للقارئ والمستبلهة له.
ومع هذا فإنّ صاحب المقال قد أبان في بعض الأسطر ممّا كتبه أنّه يدرك التوجهات العامّة لسياسة الحكومة وأهميّة الملفات المطروحة بالنسبة إلى عدد من الوزراء الجدد، ولكنّ يبدو أنّ عاملين أساسيين جعلاه يحيد عن ذلك التوجّه وهما، أوّلا: الرقابة الذاتيّة المفرطة وثانيا وأساسا: رغبته الجامحة على ما يبدو في التقرّب من هؤلاء الوزراء بمجرّد تعيينهم لغايات لا يمكن أن نراها سوى شخصيّة، بما يتناقض مع أخلاقيات المهنة الصحفيّة كليّا.
وهنا نجدّد تساؤلنا عن سبب إتاحة جريدة "الصباح" المجال لهذا المحرّر -الذي لا نعرفه شخصيّا- لإعداد قراءة بأسلوب متخشب وبعيد كلّ البعد عن الحياد المطلوب. فهذه الجريدة تزخر دون شكّ بصحفيين أكفاء ولهم القدرة على تحرير مقالات تكتسي الموضوعيّة في حدود ما يمكن نشره... عموما لا توجد في رأيي إجابة واضحة، وبما أنّه لا يوجد مجلس تحرير فعلي ومنتظم على غرار جميع الدوريات التونسية الأخرى، فالوارد أنّ مُحرّر المقال المذكور هو من اقترح بنفسه إعداد تلك "القراءة" الشخصيّة أو أنّ غياب الصحفيين ذوي الخبرة والكفاءة قد دفع رئيس التحرير إلى طلب مقال عن التعديل الوزاري من المحرّر المذكور. ومع ذلك أعتقد أنّ المسؤوليّة ملقاة أيضا على عاتق بعض الصحفيين الأكفاء الذين ربّما لم يبادروا في هذه المناسبة بالاضطلاع بدورهم في كتابة مقال معتدل يحترم قواعد الكتابة الصحفيّة ويخلو من أساليب مبتذلة أكل عليها الدهر وشرب ومن شأنها أن تسيء إلى حدّ مّا للصحيفة ومن يعمل فيها.
جريدة "الصباح" لها تاريخ عريق، معروفة باعتدالها ومحافظتها على الحدّ الأدنى من الموضوعيّة في زمن شديد الصعوبة، ولذلك نحترمها ولا نزال رغم هذه الانزلاقات التي نفضل اعتبارها فرديّة... لذلك سأشتري غدا جريدة "الصباح" علّني أجد فيها إلى جانب المعلومة مقالا موضوعيّا يصعب إيجاده في صحف يوميّة أخرى...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق