أولمبياد بيكين وصناعة الأساطير
اكتسبت الرياضة بمختلف مجالاتها، منذ عقود، أهميّة متزايدة في معظم بلاد العالم. كما أضحت الرغبة في إحراز انتصارات وألقاب رياضيّة عالميّة بمثابة أهداف إستراتيجية ذات أولويّة بالنسبة إلى الأنظمة وعنوانا للنخوة والفخر الوطنيين بالنسبة إلى الشعوب في أيّ مكان من الأرض.
وعلى غرار مبدإ "الفن من أجل الفن" بدا واضحا أنّ مقولة "الرياضة من أجل الرياضة" قد طواها الزمن منذ دهر ليس بالقريب. وهذا أمر لم يعد غريبا بما أنّ الرياضة قد صارت من الرهانات الحيويّة التي تتحكّم فيها ثنائيّة المال والسياسة. ولنا في الأولمبياد الأخير في بكين خير مثال، فقد سبقته في العديد من العواصم الغربية عواصف من الاحتجاجات السلميّة وأحيانا شبه العنيفة على السجل الأسود للصين في مجال حقوق الإنسان عموما... واستباقا لانطلاق الألعاب الأولمبية نُظمت المظاهرات والاعتصامات أمام سفارات الصين في العديد من العواصم مؤازرة إقليم التيبت ولحق شعبها في الاستقلال فاستقبل زعيم إقليم التيبت الروحي الدالاي لاما من قبل رؤساء ووزراء وكبار السياسيين، فلماذا لم يؤثر كلّ ذلك في نجاح الأولمبياد..؟ صحيح أنّ زعيم التيبتيين قد نجح إلى حدّ مّا في لفت الأنظار إلى قضيّة شعبه بفضل مُعاضدة الغرب وتشبّث أهل الإقليم وبعض زعمائهم بحقوقهم التاريخيّة، ولكنّ ذلك يبقى مجرّد مناورة إعلاميّة لا أثر لها في تغيير الرسوم الحدوديّة على المدى المنظور. والواضح أيضا في هذا الصدد أنّ الصين قد أعطت خلال الأولمبياد الإجابة الحاسمة بأنّه لا يمكن البتة لَيُّ ذراعها، وأنّه لا إمكانيّة لدخول مجالها الحيوي دون رضاها..
وفي هذا الأولمبياد كذلك، رغم ما قيل بشأن بعض الهفوات التنظيميّة ورغم ما رُوّج عن احتمالات تنفيذ أعمال إرهابيّة لإفشال الألعاب الأولمبية، نجحت الصين عينيّا في رفع التحديات التي أخذتها على عاتقها وكسب الرهانات التي حدّدتها سلفا.. الصين أذهلت العالم بأسره وأبهرته بإنجازاتها الكبرى على معظم الأصعدة، وأثبتت أنّ هيمنتها الاقتصاديّة واكتساحها الطوفاني للأسواق العالمية لها ما يبرّرها على مستوى التماسك الداخلي والإصرار الجماعي لشعبها على النماء والتفوّق..
لقد فهمت أنّ سرّ نجاح الصين يكمن في قدرتها على استيعاب كلّ ما حولها وتحويله إلى صالحها دون ضجّة أو افتعال لمعارك خاسرة...
يكفي أن نستذكر حفلي الافتتاح والاختتام لأولمبياد بيكين حتى نستوعب الدرس الذي قدمته الصين للعالم.. لوحات أثبتت أنّ تلك البلاد لم تعد تقبل الاضطلاع بالأدوار الثانويّة.. صناعة الأبطال في شتى ميادين الرياضة والصناعة والاقتصاد والفنّ وما إلى ذلك أضحت شأنها الوطني المقدّس.. بكلّ هدوء أثبتت بأنّ تلك هي السياسة..
الصين الزاخر تاريخها الحضاري وتراثها الشعبي بأساطير لا حصر لها ولا عدّ، أكّدت للعالم مُجدّدا أنّ عبقريّتها الحقيقيّة تكمن في صناعة أساطير جديدة..
(مصدر الكاريكاتير: le journal NZZ am Sonntag)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق