2009-08-19

- آخر قصائد محمود درويش "لاعب النرد":

رثاء الذات واستشراف الموت

تشكل قصيدة الشاعر الفلسطيني الكبير الراحل محمود درويش "لاعب النرد" التي كتبها في أيّامه الأخيرة مقاربة للمصير البشري الممتزج بتأثيرات فكرية فلسفية ووجودية تجد لها تعبيرا في الموروثات الشعبية الأسطورية والدينية.

قصيدة المترجل واستشعار رحلة الموت والآخرة لقد مرّ شعر محمود درويش الشاعر الفلسطيني الذي توفي قبل عام في سن الـ67 بمراحل مختلفة جدا. وكانت أشعاره في الستينيات تتحلى بأسلوب سهل القراءة، وقد لُحّن كثير منها. أما في الثمانينيات والتسعينيات فاتسمت بأسلوب معقد مليء بالأساطير والرموز اللغوية. والطبعة التي ظهرت مؤخرا باللغة العربية والألمانية للقصيدة الطويلة "لاعب النرد" تجمع أفضل ما في المرحلتين. وقبل قراءة هذه القصيدة لا بد للمرء من معرفة خلفية كاتبها كما يعرفه القرّاء العرب حتى يكون لأبياتها الأولى وقع كبير عليه:

مَنْ أَنا لأقول لكمْ

ما أَقول لكمْ ؟

(...)

أَنا لاعب النَرْدِ،

أَربح حيناً وأَخسر حيناً

أَنا مثلكمْ

أَو أَقلُّ قليلاً...

إنه لم يكن في الحسبان أن ينزل أكبر الشعراء الفلسطينيين في آخر قصيدة له قبل موته من أعلى المنصة التي أعدها مشجعوه له ويتكلم كما لو كان واحدا منهم "أو أقلٌ قليلا". والحق يُقال إن هذه القصيدة لها مغزى آخر، وأنها -وإن كانت بِلُغة بسيطة عن قصد- تتعلق بالموت والآخرة. وقصيدة "لاعب النرد" المستوحاة من قصيدة استيفان مالارمه Stéphane Mallarmé "رمية النرد" التي تحتوي على أربعين بيتا تصلح لأن تكون سيرة ذاتية أدبية لأنها تظهر بحث الشاعر عن مصيره وهويته في عالم لا أنيس فيه ولا جليس، حيث يقول فيها: "كان يمكن أَلاَّ أكونَ أَنا مَنْ أَنا".

وتظهر المصادفة فجأة على شكل قوة إيجابية تفتح المجال لتصوّر مختلف عن التاريخ، الشيء الذي يفضح الأيديولوجيين الذين يصفون التاريخ بمعانٍ عميقة ويعتبرون مساره برهانا، مؤكدا على صحة نظرتهم إلى الدنيا، وهذا تصرف معتاد في البلد المقدس موطن درويش، حيث أصبح التملك الفردي شرعا معمولا به، كما عبّر عنه درويش في الأبيات التالية:

ومصادفةً، عاش بعض الرواة وقالوا:

لو انتصر الآخرون على الآخرين

لكانت لتاريخنا البشريّ عناوينُ أخرى

وقد أسفر التلميح عن الذات عن لحظات مثيرة، وجميل أن يتعرّف المرء على سيرة شاعر مريض بالقلب، حيث كان دائما مهدّدا بالجلطة القلبية ونجا من الموت بصعوبة وفي النهاية تُوفي في أثناء عملية جراحية في القلب، وللتلميح عن ذاته يقول:

وأُصدِّقُ موهبتي في اكتشاف الألمْ

فأنادي الطبيب، قُبَيل الوفاة، بعشر دقائق

عشر دقائق تكفي لأحيا مُصَادَفَةً

وأُخيِّب ظنّ العدم

مَنْ أَنا لأخيِّب ظنَّ العدم ؟

مَنْ أنا ؟ مَنْ أنا ؟

المصدر : شتيفان فايدنر، ترجمة: عبد اللطيف شعيب ورد هذا النص في موقع "قنطرة" الألماني