بقلم معـز زيّـود
بانقلاب عسكريّ جديد، انتهت التجربة الديمقراطيّة الوليدة في موريتانيا بعد أقل من 17 شهرا على أوّل انتخابات نزيهة منذ استقلال البلاد عام 1960. سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله لم يعمّر طويلا في منصبه بوصفه أول رئيس موريتاني منتخب ديمقراطيا، فقد أصبح اليوم في أدبيات الخطاب العسكري الموريتاني رئيسا سابقا، فيما حلّ مكانه رأس الانقلاب الجنرال محمد ولد عبد العزيز. ولم يكن هذا الحاكم الجديد لنواكشوط سوى قائد الأركان الخاصة للرئاسة وقائد الحرس الرئاسي، ممّا سهّل عليه عمليّة اعتقال الرئيس ولد الشيخ عبد الله وقلب نظام الحكم دون إزهاق أرواح حتى الآن، لكنّه أجهض تجربة ديمقراطيّة استثنائيّة (ستبقى كالحلم في أذهان أبناء الشعب الموريتاني). وحسبما يبدو من خلال الأخبار القليلة التي تناقلتها وكالات الأنباء الكبرى فإنّ شبه هدوء قد خيّم على الشارع الموريتاني باستثناء مظاهرة صغيرة لم يتجاوز عدد المشاركين فيها خمسين شخصا تمّ تشتيتها بإلقاء القنابل المسيلة للدموع، بالإضافة إلى غلق مطار نواكشوط وإحكام السيطرة على هيئة الإذاعة والتلفزيون وانتشار بعض الوحدات العسكرية في الواقع المحورية في العاصمة الموريتانية.
وتشهد موريتانيا منذ فترة أزمة سياسية انتهت باستقالة 48 نائبا من حزب "العهد الوطني للديمقراطية والتنمية" الحاكم إصدار الرئيس المخلوع قرارا بإقالة خمسة من كبار الضباط من بينهم قائد الانقلاب وقائد أركان الجيش.
وفضلا عمّا سبق ذكره، فإنّ قراءة أوّلية لخلفيات هذا الانقلاب تتيح لنا تحديد الأسباب الأكثر احتمالا لما جرى في موريتانيا، وهي كالآتي:
1 - يتضح تورّط عدد من النواب مع قادة للجيش في التمهيد لما جرى في نواكشوط. وفي هذا الصدد فقد أعلن عدد من النواب الحلفاء المفترضين للرئيس المخلوع تأييدهم غير المشروط والصريح للانقلاب فور الإعلان عنه، ومن ثمّة مبايعة الحاكم الجديد. والأكثر من ذلك أنّ النائب المتحدّث باسم البرلمانيين المستقيلين قد أعلن لوسائل الإعلام صراحة أنّ الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله قد "دفع ثمن قراراته الخاطئة" في إشارة إلى قراره بإقالة عدد من كبار ضباط الجيش، وكأنّه ليس من صلاحيّات رئيس الدولة أن يفعل ذلك وهو القائد الأعلى للقوات المسلّحة وفقا للدستور.
2 - بعيدا عن نظريّات المؤامرة وما إليها، قد لا نستغرب أن تكون بعض أجهزة المخابرات الأجنبيّة، وعلى رأسها المخابرات الفرنسيّة وربّما كذلك الأمريكية، ضالعة أو على صلة من قريب أو بعيد بهذا الانقلاب. فقد تعاملت باريس طيلة أمس وبداية اليوم ببرودة غير معهودة مع انقلاب جدّ في إحدى مستعمراتها السابقة. واكتفت فرنسا بالإعلان بأنّ بلاده "معنيّة بالوضع في موريتانيا ومن المبكّر جدّا تقييم الوضع السياسي والعسكري هناك"، في حين أنّها أعلنت منذ أشهر حرصها على سلامة الرئيس التشادي أثناء تعرّضه لمحاولة انقلاب مسّلح وقدمت له دعمها اللوجستيكي لتجاوز ذلك الظرف.
3- إنّ للثروات الطبيعيّة التي تزخر بها موريتانيا وخاصّة المعادن والنفط المكتشف حديثا دور متزايد الأهميّة في تغذية الأطماع وصيانة المصالح التي تحدّد سياسة فرنسا والولايات المتحدة الأمريكيّة وأوجه تحرّكهما إزاء ما حدث في موريتانيا. والجدير بالإشارة أنّ واشنطن لم تكن تنظر بعين الرضا إلى ما يحدث في موريتانيا، فقد وعد رئيسها باستفتاء الشعب في مسألة إعادة النظر في العلاقات مع إسرائيل، وكذلك إصراره على نفي وجود إرهابيّين في موريتانيا مقابل تركيز قائد الانقلاب الأخير على معالجة هذا الملف وخاصّة بعد اغتيال سياح فرنسيين في الأراضي الموريتانية قبل أشهر. وهو ما يُعزّز من فرضية تنسيق الحاكم الجديد مع جهاز المخابرات الفرنسية منذ فترة أو على الأقل اطلاعها على مخطّطاته سعيا إلى كسب رضائها عندما حين تكون الفرصة سانحة سياسيّا وعسكريّا.
إنّ الأحداث المقبلة قد لا تكشف لنا بسرعة ما إذا كانت هاتان الدولتان أو إحداهما قد ضلعت في الانقلاب الأخير. وسنرى حتما خلال الفترة القريبة المقبلة كيف ستتصرّف فرنسا إزاء المنعطف الخطير في موريتانيا لاسيّما أنّ وزير خارجيّتها برنار كوشنار هو من نظّر لمبدإ "حق التدخل بالقوّة لإعادة فرض الديمقراطيّة" (Droit d'ingérence pour imposer de la démocratie) وكذلك الولايات المتحدة الأمريكيّة التي طبّقت هذا "المبدإ" في هايتي ثم العراق وسعت إلى إقناع العالم بذلك دون جدوى.
(مصدر الصور: وكالة الأنباء الفرنسية أ. ف. ب)
ملاحظة : سنخصّص مقالا آخر ذا صلة بهذا الموضوع للحديث عن "الديمقراطيّة في جمهوريّات الموز"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق