بقلم معـز زيّـود
كثيرا ما كنت أسمع باصطلاح "جمهوريّات الموز" Républiques bananières، وكنت اكتفي بالمعنى المتداول لهذه التسمية التي تعود جذورها إلى بداية القرن الماضي حين كانت المؤسّسة المتحدة للفواكه United Fruit Company الأمريكيّة تُموّل الأنظمة العسكريّة للعديد من دول أمريكا اللاتينيّة وتتحكّم في قرارها السياسي وتمنع إعادة توزيع حقول الموز الشاسعة في تلك البلدان. وقد توسّعت هذه التسمية فيما بعد لتُطلق على الكثير من البلدان الإفريقيّة التي تستحوذ أنظمتها العسكريّة على ثروات شعوبها كما تُُعلن نفسها مؤتمنةً على حريّتها في حاضرها ومستقبلها.
اليوم عند تفحّص العديد من التجارب السياسيّة التي تُنعت عادةً بالديمقراطيّة أرى أنّ معنى جمهوريّات الموز أضحى على المستويين النظري والعملي أوسع من ذلك، وتعدّ التجربة الموريتانيّة في هذا الصدد خير مثال. فالسؤال المحوري هنا هو: هلّ يمكن اعتبار أنّ النظام السياسي الذي يُقام في أيّ بلد على أساس انتخابات نزيهة وحرّة فعليّا هو نظام ديمقراطي؟ وهل أنّ أيّ دولة يمكن أن تتحوّل إلى ديمقراطيّة بمجرّد خوض انتخابات نظيفة وصعود الفئة التي اختارتها غالبيّة الشعب إلى سدّة الحكم؟
إنّ الإجابة بنعم على هذين السؤالين تؤدّي بنا إلى اعتبار موريتانيا -ما قبل الانقلاب الأخير- دولة ديمقراطيّة وكذلك العديد من الدول التي تشمل حكومات أو مجالس نيابية انتخبتها شعوبها في كنف النزاهة والحريّة كالهند وباكستان آسيويّا والسنغال إفريقيّا على سبيل الذكر لا الحصر. ومع هذا، فقد أثبتت التجربة أنّ هذه الدول باختلافها قد شهدت إحدى حالتين: إمّا أنّها مرّت بانتكاسات أتت على مؤسّساتها التمثيليّة وأجهزتها التنفيذيّة التي وصلت إلى الحكم عبر صندوق الاقتراع، وإما أنّ تلك الانتخابات النزيهة قد انتهت حيث بدأت أي لم يصحبها أيّ تطوّر على الأصعدة الاجتماعيّة والثقافيّة والاقتصاديّة، ومن ثمّة كذلك على صعيد الممارسة السياسيّة. فموريتانيا التي هلّل معظم المحلّلين والمحترفين بالسياسة لنجاح مسارها الديمقراطي واستثنائيّته في المنطقة العربيّة بأسرها لم تخطُ سوى أشهر معدودة حتى اختنقت بالأزمة تلو الأخرى لتنتهي كالعادة بانقلاب عسكري باركته مظاهرات جماهيريّة كانت قبل أقل من السنة ونصف السنة تُؤازر نظام الرئيس المخلوع مؤخرا. والأمر يبدو متشابها كذلك في مستوى غياب الديمقراطيّة بالنسبة إلى باكستان والهند والسنغال رغم الاختلافات في مستوى الثروات والقوى الصناعية والاقتصادية في مختلف هذه البلدان.
فالديمقراطيّة والفقر لا يستقيمان، والديمقراطيّة والأميّة والجهل كذلك لا يستقيمان.. كما أنّ العقليّة القبليّة والطائفيّة المتنافية مع قيم التسامح والاختلاف والمواطنة لا يمكن أن تتجانس مع روح النظام الديمقراطي، بل إنّ المجتمع الذي تغيب فيه ثقافة المحاسبة والنقد وتضمر فيه قوى المجتمع المدني هو أبعد ما يكون عن المجتمع الديمقراطي الذي يتأسّس على حيويّة الفضاء العمومي المتّسم بحريّة التعبير والمجاهرة بالآراء المختلفة وديناميّة مختلف مكوّنات المجتمع المدني.
إنّ هناك قواسم لابدّ من توفّرها حتى تؤسّس مرحليّا وتراكميّا لمجتمع ديمقراطيّ وتعدّدي. وهو ما يتنافى كليّا مع العديد من قيم المجتمعات التقليديّة كالتقسيم القبلي والطائفي وغيرها من الأوضاع الراهنة كالفقر المدقع والأميّة وتزايد القوى الأصولية. وكلّ تلك السمات تستحكم بالسواد الأعظم من المجتمعات الهنديّة والباكستانيّة والموريتانيّة والسنغالية رغم أنّ البلدين الأوليين يفوقان بدرجة عالية جدا البلدين الآخرين في مستوى التطوّر الصناعي والتكنولوجي كميّا ونوعيّا.
ففي دولة "عُظمى" بشريّا واقتصاديّا مثل الهند يعيش أكثر من ربع السكّان تحت خطّ الفقر وتستحكم التقسيمات الطبقيّة للمجتمع وكثيرا ما تكون الجوانب الطائفيّة هي الحاسمة في الممارسة السياسيّة، فضلا عن استفحال الأمراض الوبائيّة والمعديّة. وكلّ تلك العناصر إذا اجتمعت حالت دون التحوّل إلى مجتمع ديمقراطي تغيب فيه القيم الحداثيّة.
أما السنغال، الدولة الإفريقيّة الواقعة على الساحل الغربي جنوب موريتانيا، فهي كجارتها الشماليّة يعيش أكثر من نصف سكانها تحت خطّ الفقر وتقارب نسبة البطالة فيها خمسين بالمائة وتتناطح في السياسة والحكم والمصالح بعض الإثنيات العرقية والمذهبيّة الكبرى فيها. وعلى الرغم من الانقلابات العسكريّة لم تعرف طريقها إلى البلد بما جعلها تُفاخر بنظامها الديمقراطي وهو ما تدين لها به حتى الدول الغربية، فإنّ السنغال لا تعيش مسارا ديمقراطيّا على خلاف ما هو ظاهر. فقضيّة مقاطعة كازامانس Casamance جنوب البلاد التي تطالب بالاستقلال لا تزال تُعدّ من الخطوط الحمراء رغم مئات الضحايا الذين قتلوا في هذا النزاع. كما أنّ الانتخابات النزيهة التي أوصلت الرئيس عبد الله واد (82 عاما) إلى الحكم منذ ثماني سنوات ونيف لم تتمكّن من القضاء على ثقافة الولاء للقبيلة والعرق ولم تحدّ من نسبة الفقر المدقع أو تتمكّن من إعطاء القانون هيبته فمازالت المحسوبيّة والرشوة مستشرية حسب ما لاحظناه عينيّا وبشكل مباشر في زيارتنا لهذا البلد... الديمقراطيّة إذن لا يمكن أن تُصنع بقرار سياسي دون أن يكون لها متن ثقافيّ واجتماعيّ واقتصاديّ، فهي عمليّة تراكميّة وهي مسار تاريخيّ، إنها ليست مجرّد وعاء تختزله انتخابات نزيهة ثمّ يتوقف الأمر. فالانتخابات الحرّة والنزيهة هي إحدى المكوّنات الضروريّة للعمليّة الديمقراطيّة، ولكنّها تلك بمفردها تصبح مفرغة من أيّ محتوى ودلالة. قد أدّى الانقلاب في موريتانيا على الرئيس الأسبق معاوية ولد سيدي أحمد الطايع إلى انتخابات نزيهة بقيت بلا معنى ولا مضمون، زادت الفقر فقرا، لم تغيّر شيئا ولم تعتنق من الديمقراطية سوى الاسم، فانتهت اليوم بانقلاب جديد أيّدته "الجمهرة" كسابيقه.. وهكذا أضحى المشهد لعبة تجسّد تناحر قوى يغيب فيها مجتمع اليوم وتواكبها قبيلة الأمس.. تلك بعض السمات الراهنة لجمهوريّات الموز. (المصدر: نُشر هذا المقال في جريدة "الصباح" الصادرة اليوم 13/08/2008)
هناك 3 تعليقات:
ألف مبروك على العودة إلى الكتابة الصحفية وخاصة النشر.
وارجو ان تبقى على اتصال دائم بالورق والكمبيوتر.
سررت كثيرا بعودتك إلى مدونتك وتعمدت الا اكتب لك تعليقالكي اراقب عن بعد مدى ارتباطك بها، واليوم بعد يقيني ان العود هذه المرة لا رجعة لها تراني اهنئك بدل المرة الف، واهنئك اكثر على المقال المنشور في جريدة الصباح..وارجو ان تستمر.
مرة اخرى الف مبروك واحييك على هذه المثابرة
زميلتك الفة الجامي
باعتبارك من منصري المرأة،
كنت اتمنى ان أجد شيئا اقرأه تهديه لها في عيدها اليوم.
أسعدتني كثيرا بهذا التعليق يا ألفة، فأنت أكثر من زميلةٍ كانت هنا ثمّ هاجرت.. أنت صديقة عزيزة تحدّت العالم من أجل إثبات ذاتها، وهذا وحده يُحسب لك أكثر من حياة.. فواصلي التحدّي، إنها لعبة هذي الحياة.. أنت هناك لكنّك هنا معنا في كلّ مكان، وآمل أن تبقي كذلك..
إرسال تعليق