2009-03-29

- قرأت لكم.. عن دور المثقف العربي المفقود..

بطالة المثقف العربي!

بقلم خيري منصور

لا نحتاج إلى إعادة تعريف البطالة كي تستقيم دلالتها مع هذا السياق، فهي رغم الاحتكار الاقتصادي تاريخية بعدة امتيازات، ولها تجليات ثقافية يقدم الواقع العربي الراهن نموذجا لها، وقد يظن البعض أنّ مهمة المثقف تنتهي عند انجاز نصوصه أو منتجه المعرفي ثم يعود إلى قاعدته سالما، والمثقف الذي تكرّس الندوات الموسمية لتحديد دوره، نادرا ما يفطن هؤلاء إلى أن دوره مسروق منذ الولادةِ، كمواطن أولا وكمثقف ثانيا، لأن هناك من يتصورون بأنهم ينوبون عنه في التفكير والحلم، ولا ينوب عنهم إلا بالألم والنفي وأخيرا الموت .

والواقع العربي اليوم سياسيا واجتماعيا واقتصاديا في حالة من الاستنقاع والخمول رغم وجود كل العوامل الموضوعية المحرّضة على الحراك الفاعل، وهو واقع يشهد تحالفا غاشما بين التسلّط المحلي والاحتلال والارتهان وشلل الإرادة، مما يلزم النّخب بأدوار استثنائية ومضاعفة، لكن المفارقة هي في هذا الطلاق بين الثقافة ومجمل مفاعيلها، فما يراد لها وللمشتغلين بها هو الاكتفاء بالكتابة المعقّمة الصالحة للنشر، تماما كذلك الرسم الكاريكاتوري الذي صوّر مواطنا مثاليا وقد تدلت ملاقط الغسيل من عينيه وأنفه وأذنيه وفمه، بحيث أصبح بالفعل صالحا للنشر تحت الشمس وعلى أسطح المنازل على مرأى من الملأ . إن هناك ارتباطا عضويا بين بطالة المثقف والحالات المزمنة التي يحظر فيها تداول السلطة، في مجتمعات باترياركية، تحوّل منطق الوصاية إلى إيديولوجيا مقدّسة وترى في بلوغ الفطام والرشد عصيانا وعقوقا، وقبل أكثر من ثلاثة عقود لم يكن المثقف العربي عاطلا عن دوره التاريخي، لهذا سجن وعوقب ونفي، وكانت المنابر الثقافية على ندرتها وبدائية التقنية الطباعية التي تصدر بها أرشق من هذه الفضائيات وهي تنشر النبأ، لأن الفعل هو مجال الرّغبة، وليس فقط وليد التطور التكنولوجي، خصوصا في مجتمعات كرّست التكنولوجيا لأغراض رعوية وثبت من خلالها الخرافة وثقافة النميمة والاستعداء، ولم يكن العالم العربي قبل أربعة عقود يتمتع بهذا العدد من الجامعيين والأكاديميات والفضائيات ووسائل الاتصال السريع، لكن الأنتلجنسيا العربية على تفاوت مستوياتها وحيثياتها بين بلد وآخر كانت لا تزال تؤمن بأن لها دورا في صياغة الرأي العام وبالتالي المستقبل الذي يعوّل عليها كاعتذار قادم عن راهن موبوء!

وما نشر من روايات ودراسات في الستينات من القرن الماضي يحظر نشر بعضه الآن، ويهدر دم مؤلفين اقترفوا جريمة التفكير والاجتهاد. وحين عوملت قضية د. صادق العظم بعد صدور كتابه نقد الفكر الديني كأمثولة، سرعان ما تحوّلت إلى مجرد مثال متكرّر، لأن التقدم العلمي استخدم كالعادة على نحو معكوس، وتبعا لدينامية عربية تستحق براءة اختراع تتلخص في تحويل النعمة إلى نقمة، ورغم أن الواقع العربي ازداد استنقاعا وفسد فيه حتى الملح، إلا أن الثقافة ارتدت طاقية الإخفاء، وثمة مثقفون نافسوا الجنرالات ووزراء الداخلية في لعب دور العسس والتلصّص على نصوص تهمتها أنها غير داجنة وغير لاحمة وملغومة بما يقبل التقويل أكثر من التأويل، وأصبح هاجس المثقف هو تحقيق أكبر قدر من حرية التنقل بين العواصم والمهرجانات...

المصدر: هذا جزء من مقال مميّز نُشر بصحيفة "القدس العربي" بتاريخ 28 مارس 2009، وللاطلاع على بقيّته يمكن النقر على الرابط التالي بشبكة محيط:

http://www.moheet.com/show_news.aspx?nid=238492&pg=8

ليست هناك تعليقات: