حينما تندثر ثقافة الجهد،،، تضمحلّ قيمُ المواطنة...
تعيش المجتمعات العربية اليوم تحوّلات عميقة في مستوى القيم المجتمعيّة والفرديّة للإنسان العربي. وتستند هذه التحوّلات، في تقديري، إلى بعض جوانب النموذج الغربي وليس كلّه. وبغض النظر عن المرجعيّات الدينيّة والثقافيّة التي مازالت مُستحكمة في العرب أفرادا وجماعات فإنّ هناك انبهارا بالنموذج الاستهلاكي الغربي في مختلف المجتمعات العربية بما في ذلك المجتمعات القائمة على الروابط القبليّة والبنى التقليديّة، غير أنها جميعها لم تستوعب بعد مقوّمات المجتمع الاستهلاكي المستند أساسا إلى العقلانيّة والحريّة واحترام القوانين باعتبارها مكوّنا أساسيّا للمواطنة المفقودة في بلادنا العربية. ولذلك فقد تبنّت المجتمعات العربية نموذجا استهلاكيّا مشوّها يقتصر على تقليد الجوانب التقنية الظاهرة من تطوّر المجتمعات الغربية وتعوزه الروافد الفكريّة والسلوكيّة التي شكّلت المجتمعات الغربية كما هي عليه اليوم.
ولخلفيّات وأسباب متعدّدة من بينها انتشار الفقر والحاجة والرشوة والفساد السياسي والنفاق الاجتماعي وغياب الثقة في الحاضر والمستقبل، أخذنا نلاحظ الغياب المتزايد لما يمكن أن نُسمّيه بثقافة الجهد، وقد حلّت محلّها ثقافة الربح السهل ووهم الثراء السريع بغض النظر عن الوسيلة والأسلوب والقيم الاجتماعيّة الموروثة منها والحديثة..
ولاشكّ أنّ الدور الأكبر في ذلك إنّما يعود إلى وسائل الإعلام وللنموذج الاقتصادي العربي القائم على مؤسّسات لا تُبالي سوى بتحقيق أرباح أوفر على حساب قواعد المنافسة النزيهة والتعامل مع المواطن لا بوصفه ذات وإنما باعتباره موضوعا وحقل تجارب لمنتجاتها وطرقها التسويقيّة. وفي ذلك يمكن أن نسوق أكثر من مثال. وسنكتفي هنا بالأمثلة التالية التي نلاحظها في مختلف البلاد العربية:
- انتشار برامج الألعاب والمسابقات التلفزيونيّة التي تـُحرّض على الربح السهل مثل : كيف تربح الملويون، وآخر قرار، ووزنك ذهب، وغيرها من البرامج التي توهم المشاهد العربي بإمكانيّة أن يُصبح مليونيرا بين عشيّة وضحاها،
- أضحت معظم المؤسّسات التجاريّة تـُعوّل بالأساس على المسابقات التسويقيّة المعتمدة على تخصيص جوائز خياليّة لأحد أو بعض المستهلكين المشاركين فيها مثل السيارات والعقارات وغيرها،
- أصبح من المعتاد في المراكز والتجمعات التجاريّة الكبرى مشاهدة جموع من الناس متجمهرين حول بضاعة أو مادة استهلاكيّة معيّنة تُقدّمُ لهم مجانا لتذوّقها أو الفوز بنصيب منها لهم أو لمن يصطحبون من أبنائهم، والنتيجة أن يتجرّع الصغار الطمع المتزايد للأباء والأمّهات الممتهنين لكرامتهم بمقابل بخس...
ومن الواضح أنّ هذا السلوك الرائج عربيّا قد عزّز حالة الانفصام والتشرذم في المجتمعات العربية، فدفع الخواء الفكري أبناءها إلى هجرة ثقافة الجهد والعمل والإقبال والتعويل على الربح والفوز السهل ومن ثمّة مراكمة الأطماع.. صار الطمع في البلاد العربيّة بمثابة صناعة مُربحة لا يُظاهيها أيّ نوع من الصناعات الأخرى... تلك أساليب تسويقيّة مُذلّة لا ترى في الإنسان سوى مستهلكا لبضاعتها فتـُخاطب الغرائز دون العقل ولا تعترف بقيم المواطنة، ولذلك أضحت في هذي البلاد الأكثر استقطابا للمشاهدين والمشاركين..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق