السلطة والإيديولوجيا واستبطان الرقابة
تبقى الرقابة الذاتيّة من أكثر "المواهب" الرائجة لدى الإعلاميين العرب بغضّ النظر عن درجاتهم المهنيّة سواء كانوا صحافيين شباب أو مديري تحرير أو رؤساء تحرير. والرقابة -حسب ما أرى- تعني باختصار ذاك الصمت الاختياري عن ذكر حقائق بالقلم أو الصورة، تـُؤدّي إلى مغالطة الجمهور وتضليله.
وإلى حدّ ما يمكن القول إنه لا يوجد في الإعلاميين من هو منعتق من الرقابة الذاتيّة بشكل مطلق. ولا يشمل هذا الأمر الصحافة العربية فحسب وإنّما يشمل كذلك الإعلام في مختلف بلاد العالم، بما في ذلك الدول ذات التقاليد الديمقراطيّة التي تتّسم صحافتها ومختلف وسائل إعلامها بدرجة عالية من الحريّة.
فالرقابة الذاتيّة قد تكون محدودة حينما تقتصر على احترام مشاعر الأغلبيّة في مجتمع معيّن إزاء موضوع أو قيمة مّا، دون أن يمسّ ذلك بجوهر الحريّة والقراءة الناقدة للأحداث والمواقف. وهذا ما يرفضه البعض على أساس أنّ حريّة الصحافة والتعبير كلّ لا يجوز تجزئته وأنّ من قبِل عدم البوح بأراء أو أخبار لتعارضها مع الخطاب القائم فإنّه يتبنّى عن قصد أو غير قصد توجّه محافظ يُدافع على الأوضاع السائدة بغض النظر عن ماهيّتها.
والمؤكّد أنّ الرقابة الذاتيّة المنتشرة في الربوع العربيّة بإسراف يوجد بعض منها في الديمقراطيّات الغربية، فالسواد الأعظم من الصحافيين الغربيين يمتنعون مثلا عن توجيه انتقادات لدولة إسرائيل وممارساتها القمعيّة وانتهاكاتها الصارخة لحقوق الشعب الفلسطيني. والأكثر من ذلك أنّه في أغلب الدول الغربيّة أضحت الرقابة الذاتيّة في هذا الصدد من إفرازات القوانين المتعلّقة بمعاداة الساميّة، إذ لتجنّب الملاحقة القضائيّة التي يعزّزها اللوبي الصهيوني يمتنع الصحفي أو المؤرخ أو المفكّر عن الإدلاء بآرائه إذا ما تعارضت مثلا مع الرواية الرسميّة لقضيّة محرقة اليهود على أيدي النازيّة ولو جزئيّا أو كذلك إذا ما تعارضت مع ما يُسمّى بالأمن القومي. وهذا ما لا يعتبره بعض المختصّين رقابة ذاتيّة وإنّما التزاما بالضوابط المهنيّة والقانونيّة.
أمّا في البلاد العربيّة، فقد أصبح عاديّا أن يُطلق الإعلاميّون عنان الرقابة الذاتيّة في مختلف المجالات تحت سطوة الشعور بالخوف من المسؤول صغيرا كان أو كبيرا من النظام الحاكم أو المعارضة. كما يمكن ممارسة الرقابة الذاتيّة تجنّبا للمسّ بمصالح قد تختلف باختلاف الشخص والبلد والظرف العام... كما لا يخفى أنّ التوجّه الإيديولوجي العام لبعض وسائل الإعلام العربيّة قد يُنتج قدرة هائلة على توليد الرقابة الذاتيّة لدى الصحفيين العاملين فيها، على الرغم من أنّ هناك من يُفرّق بين الخط التحريري المجسّد لإيديولوجيا معيّنة وبين الرقابة الذاتيّة...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق