2008-12-16

- دلالات حادثة الحذاء

الصحافة بين أخلاقيات المهنة والنضال السياسي

لا شكّ أنّ صور حادثة رَمْي الصحفي العراقي منتظر الزيدي بجوزي حذائه نحو الرئيس الأمريكي جورج بوش أثناء مؤتمر صحفي في بغداد قد جابت بين الأمس واليوم أرجاء العالم برمّته. وقد حصدت تلك الحادثة ملايين التعليقات والنوادر وردود الفعل المختلفة، بل وبلغ الأمر حدّ ابتكار ألعاب إلكترونيّة توظف ذاك الموقف الفريد من نوعه وتتهكّم بشكل من الأشكال على رئيس أكبر دولة في العالم بما يمكن اعتباره عمليّةّ إذلال وإهانة غير مسبوقة بشهادة الإعلام الأمريكي نفسه. كما أصدرت العديد من الجمعيات والمنظمات ونقابات الصحفيين بيانات تتضامن فيها مع الصحفي المذكور وتطالب السلطات العراقية بالإفراج عنه فورا، وهذا أمر منتظر وطبيعي بالنظر إلى دورها في الدفاع على الحرمة الجسدية والمعنوية للصحفيين.
هل ينبغي الاضمحلال في هذه الموجة العاتية من ردود الأفعال دون التوقف برهة للتفكير في دلالات تلك الحادثة لا فقط في مستواها السياسي وإنما خصوصا في بعدها المهني ذي الصلة بدور الصحفي والمعادلة بين الالتزام بضوابط المهنة أو الالتزام السياسي. هنا يكمن في رأيي بيت القصيد.
هذه الحادثة مثيرة بكلّ المقاييس... وللخوض في دلالاتها أراني ملزما بإعادة طرح الأسئلة التالية:
- كيف أنظر إليها، هل بمنظار الصحفي الذي يَعنِيه احترام أخلاقيّات المهنة؟ أم بمنظار المواطن العراقي أو العربي المغلوب على أمره والمحروم من أبسط حقوقه في التعبير عمّا يُخالج نفسه من ظلم وغبن وكبت متراكم؟
- هل أنخرطُ في الموجة الجماهيريّة العارمة من التمجيد والتهليل للحركة التي أتاها الصحفي منتظر الزيدي؟ وبذلك أمارس وجوبا الرقابة الذاتية، ومن ثمّة أركنُ للنفاق الاجتماعي الذي يُخيّم على جلّ ممارساتنا العامّة أم أقول رأيي بصراحة بغض النظر عن ردود الفعل التي قد ترميني بالتذيّل للغرب الإمبريالي؟
دون تعقيد للمسألة، ينبغي أن نُقرّ أولا بأنّ تصرّف منتظر الزيدي يُجسّد ممارسة سياسيّة نضاليّة، فهو بإيجاز يعكس حركة احتجاجيّة ضدّ أحد أكبر رموز عنف الدولة العظمى وضدّ سياسة الاحتلال والتقتيل والتدمير وإرهاب الدولة الذي مارسته الولايات المتحدة الأمريكيّة ضدّ الشعب العراقي وعدد من الشعوب الأخرى. ومن هذه الوجهة السياسيّة لا يمكن من موقعنا وانتمائنا إلاّ نتضامن مع الشخص الذي أذلّ رئيس أكبر نظام متخصّص في إذلال الشعوب الأخرى..
أمّا بالنسبة إلى تصرّفه بوصفه صحفيّا أثناء أداء واجبه المهني، فالأمر في تقديري وفي أعراف المهنة مختلف كلّ الاختلاف. فمن الأبجديات البسيطة لأخلاقيات المهنة الصحفيّة أن يُحافظ الصحفي على حياديّته أثناء قيامه بواجبه المهني وألاّ يحشر التزامه السياسي في أدائه الصحفي. أن نتضامن مع منتظر الزيدي ونطالب بإطلاق سراحه باعتباره مواطنا عبّر عن احتجاجه ضدّ رمز لسلطة قامعة فذاك أمر لا خلاف فيه.. أمّا أن نُهلّل لسلوك نزعم أنّه عين الصواب في ممارسة المهنة الصحفيّة ونعتبر صاحبه بسرعة البرق "رائد الصحافة العربية" فهذا مبالغة سطحيّة من جهة وإخلال فاضح بأخلاقيات المهنة وزيغ عن مبادئها وأعرافها من جهة أخرى، فالصحفي المذكور لم يكن في مهمّة سياسيّة أو نضاليّة وإنّما تمّ تكليفه بأداء عمل صحفي بغض النظر عمّا يكون، فما كان منه إلاّ أن لبس عباءة المناضل السياسي...
ما أريد إيضاحه هو أنّ لكلّ مقام مقال وسأروي حادثتين للتمييز بين الأمرين. تعود الأولى إلى بضع سنوات حين قام الصحافيون التونسيون بتجمّع أمام مقر إحدى الصحف الأسبوعيّة وقاموا برشق بوابتها بأقلامهم تعبيرا منهم عن السخط تجاه مدير تلك الصحيفة بسبب ممارسته الهرسلة الجنسيّة إزاء صحفيّة تعمل بالجريدة التي يمتلكها،. أما الحادثة الثانية فقد شارك خلالها الكثير من الصحافيين التونسيين سنة 1991 في مظاهرة كبرى للتنديد بالعدوان الأمريكي ضدّ العراق وتمّ فيها حرق العلمين الأمريكي والإسرائيلي... وفي كلتا الحادثتين كان تحركّ الصحافيين يعبّر عن عمل نضالي بتنسيق من جمعيّة الصحافيين التونسيين، أي أنه لم يتمّ أثناء أداء الصحافيين لعملهم الذي يخضع لضوابط مهنيّة ينبغي احترامها مهما اختلف السياق...
والإشكال المطروح اليوم هو أنّ هذه "البطولة" التي أتاها الصحفي العراقي وإن كانت قدّ نفّست بعض الكبت والغبن وأذلّت رئيس دولة أوغل بسياساته المتصلّبة في قمع الشعوب وتدمير مقدّراتها وإعاقة نموّها ونهب ثرواتها، فإنّ عواقبها على حريّة ممارسة المهنة الصحفيّة ستكون رهيبة لا في الدول العربية وحسب وإنّما في العالم بأسره... لا أشكّ لحظة أنّ الصحافيين العرب بشكل خاص والصحافيين في العالم عموما سيكتشفون بأنفسهم شيئا فشيئا حجم التضييقات التي ستمارس عليهم مستقبلا سواء في مثل تلك المؤتمرات أو في غيرها من الأنشطة التي يُشارك فيها كبار المسؤولين. ومن ثمة ستكون النتيجة وخيمة على الجميع، إذ ستنتهي بتعميم ممارسة الحجب والتعتيم وانتهاك الحق في الإعلام وفي كشف التجاوزات السائدة...

هناك تعليقان (2):

غير معرف يقول...

انا طالبة بالسنة الأولى بمعهد الصحافة و علوم الأخبار و ادرس عندك مادة الأحداث الوطنية بخصوص هذا المقال شعرت انك غير متعاطف مع منتضر الزيدي مع أني أتمنى أنني أنا من ضربته و اتحمل كامل مسؤوليةفأنا اكن له كامل الأحترام و التقدير رغم احترامي لما تقوله انه"دور الصحفي بين أخلاقيات المهنة و النضال السياسي "لأنه حسب راي الشخصي فى بعض المور لا يشعر الشخص بما يقوم و تصبح افعال لا أرادية فتلك الشخص المتضرر الذي تاذى مرة في حياته هناك الملايين الذين يتضرر كل دقيقة و عين الصواب ما فعله هذا الرجل الشجاع.

"شبه مواطن" يقول...

دون أن أعرف من تكوني، أشكرك يا طالبتي العزيزة على هذا التفاعل، وآمل أن تواصلي على هذا النهج في مختف فضاءات الحوار والجدل البناء.. أمّا بالنسبة إلى مقالي فأدعوك إلى التمعّن في ما كتبتُ، فقد ميّزت بين تصّرف منتظر الزيدي بوصفه صحفيّا وبين تصرّفه باعتباره مواطنا عراقيا أو عربيّا.. أنا نفسي أتعاطف معه وأنادي بإطلاق سراحه فورا دون قيد أو شرط بوصفه مواطنا احتجّ ضدّ رمز الاحتلال والتقتيل والتدمير مُعبّرا بذلك عن الحنق والغضب والسخط الذي يعتمل في أنفس الملايين من العراقيين والعرب وغيرهم من سياسة الرئيس بوش والولايات المتحدة الأمريكيّة عموما. ولكنّ هذا لا ينبغي أن يحجب أيضا حقيقة أنّ دور الصحفي الباحث عن الخبر والمعلومة أثناء أداء مهنته يمنعه من القيام بمثل هذا العمل النضالي سواء ضدّ بوش أو صدام حسين أو غيرهما..
أي نعم، منتظر الزيدي قام بعمل نضالي ولكن لا علاقة لذلك بمهامه الصحفيّة.. ولذا لا ينبغي الخلط بين الأمرين، ومن الغباء والاستغباء والإمعان في المبالغة وصفه بأنّه رائد الصحافة العربيّة وما إلى ذلك.. ناهيك أنّ ما أقدمت عليه العديد من الصحف التونسيّة والعربيّة من توظيف لهذه الحادثة لا ينبع في غالبه من إيمان ومصداقيّة والتزام بقضايا الجماهير وإنّما يتنزّل في نطاق انتهازيّة مفرطة ونفاق مقنّع لأهداف تسويقيّة معلومة لأنّها تعرف عين المعرفة أنّ هذا التصرّف البطولي سياسيّا وشعبيّا من جهة يُعدّ تجاوزا لأعراف المهنة وأخلاقيّاتها من جهة أخرى...
أرجو أن أكون قد أوضحت...