شاعر المقاومة في جميع الأزمان**
فيصل درّاج - مجلة الآداب - 10-11/2008
لماذا أراد محمود درويش أن يكون "شاعرَ المقاومة الفلسطينية" في بداية مساره، وأصبح لا يميل إلى هذا اللقب في فترةٍ لاحقة؟لم يبتعد الشاعرُ عن قضيته الوطنية، كما يظنّ الوعيُ القاصرُ وأنصارُ النميمة. لكنه تعلّم أنّ التجربة الفلسطينية، الموزَّعةَ على النجاة والغرق، تتطلّب أشكالاً مختلفةً من المقاومة.
في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي، أَطلق غسّان كنفاني على أدب فلسطين المحتلة صفةَ "أدب المقاومة،" الذي اشتُقّتْ منه صفةُ "شعراء المقاومة،" وصولاً إلى "شاعر المقاومة الفلسطينية: محمود درويش." وقد ارتضى هذا الشاعرُ الشابُّ بلقبه، الذي عبّر آنذاك عن قصيدةٍ تبشيريةٍ تَعِدُ بتحرير الحاضر من قيوده، وعن شاعرٍ غاضبٍ اشتهى مستقبلاً لا شذوذَ فيه. كَتب الشاعرُ عمّا كَتب عنه غيرُه من "شعراء المقاومة،" لكنه لم يكن منهم تمامًا، بسبب نجابةٍ مبكّرةٍ لا تخطئُها العينُ النافذة.
في الديوان الأول، أوراقُ الزيتون، وهو ليس الأولَ تمامًا، أَعلن درويش عن موضوعاته التي تقترحها فلسطينُ المحتلّة، وعن القارئ الذي تتوجّه إليه قصيدةٌ مقاتلة. تحدّثت الموضوعاتُ عن ولاءٍ، وأملٍ، ومرثيةٍ، وعن رسالةٍ من المنفى، وعن الصمود، والبكاء، والحزن، والغضب، وعن بطاقةِ هوية، وعن الصاحب "الذي مضى وعاد في كفن،"... أمّا القارئ، فعيّنه الشاعرُ بجملةٍ قصيرة: "أجملُ الأشعار ما يَحْفظه عن ظهرِ قلْب كلُّ قارئ،" قاصدًا قارئًا عاديّاً، يذهب إلى قصيدةٍ منتظرةٍ، وتأتي إليه القصيدةُ سهلةً مُقْنعة. هكذا اعتبر الشاعرُ القصيدةَ الأولى في الديوان الأول (وعنوانُها "إلى القارئ") بيانًا شعريّاً مضمَرًا، يساوي بين الشاعر والقصيدة والغضب، سائلاً القارئَ ألاّ يرجو منه الهمسَ وألاّ ينتظرَ الطربَ: "غضبٌ يدي/غضبٌ فمي/ودماءُ أوردتي عصيرٌ من غضب!/يا قارئي!/لا تَرْجُ مني الهمسَ/لا تَرْجُ الطربْ!"...
كان محمود يَعرف أنّ "الشعر الجماهيري" اليسير يسطو على الأفكار الجميلة، وينتزع منها شرعيةً زائفة. فآثر الالتزامَ بـ "الشعر الجميل،" الذي ينتمي إلى تاريخ الشعر، ويَحترم القصيدةَ والقارئَ في آن...
عرف الشاعر، المتعدّدُ في أطواره الشعرية، دلالةَ المقاومة المتعددة. وأَدرك وعيُه، المهجوسُ بالتعدّد، أنّ هوية الإنسان المقاوم محصّلةٌ لأشكال التحدّي والردّ عليه. قال في مقابلة معه بمناسبة احتفال فرنسا بتجربته الشعرية عام 2006: "الحاضر يَخْنقنا ويمزّق هويّاتنا. ولذلك لن أجدَ أنايَ الحقيقة إلاّ غدًا، عندما أستطيع أن أقول شيئًا آخر، وأن أكتبَ شيئًا آخر. الهوية ليست إرثًا، بل إبداع. إنني أسعى لأن أربّي الأملَ كما نربّي طفلاً، وحتى أكونَ ما أريد أن أكون، وليس ما يريد غيري أن أكون.
"المقاومة وعيُ الضرورة، وهي البحثُ عن غدٍ يحقّق الهوية. والمقاومة هي السعي إلى هوية متطورة تُشتقّ من التجربة، وهي الفعلُ الحرّ الذي يَنْشد غدًا قوامُه ذاتٌ تكون كما تريد أن تكون. وما الأمل، الذي يحتاجه مقهورون صُودِرَ وجودُهم، إلاّ ذلك الطريقُ الشائكُ الطويلُ الذي يتلامح في نهايته شيءٌ يدعى: الحرية.
رَحَلَ محمود درويش على غير انتظار. لكنه أَنجزَ ما ينبغي إنجازُه؛ فكأنه ـ وهو القلِقُ المجتهدُ المتطلّب ـ قد استعدّ للرحيل قبل ساعةِ الرحيل.
** ملاحظة : هذه بعض مقتطفات من مقال مُطوّل، يمكن الاطلاع على بقيّته في موقع مجلة الأداب : http://www.adabmag.com/node/148
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق